بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة

المداهنة في الدين هل تجوز


أيها المسلمون، مما يزيدنا يقينًا بديننا واستمساكًا بأصوله واعتزازًا بقيمه ما نجده في كتاب الله من النهي الشديد عن المداهنة في دينه، ومن التحذيرِ الرهيب من المساومة على شيء من أحكامه ولو في أحلك الظروف، ولو بقصد خدمة الدين والحفاظ على مسير دعوته.
ولم يكن النهي عن المداهنة ليبلغ ما بلغه من الزجر والتخويف لولا أن المداهنة تناقض حقيقة التسليم والإذعان لله، ولولا أن ما يُساوم عليه حقٌ ليس بعده إلا الضلال، ولولا أن المداهنة في ذلك تشويهٌ للحقيقة فإعادة النظر فيها تشكيك في اليقينيات، فلا يقبل المداهنة في أصول الشريعة إلا من وقع في روعه أن أحدًا يسعُه الخروجُ عن بعض الشريعة.
والتأكيد على هذا التحذير والنهي يُحيي في قلب المسلم شعورَ الاعتزاز بالإسلام، ويزيدُه يقينًا بأصوله بعد يقين، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل:79].
وتأمل كيف أن النهي عن المساومة في أصول الدين وقطعياتِه جاء في أول أمر الإسلام، يوم كان أهلُه مستضعفين مضطهدين، وبهم من الحاجة إلى مصالحةِ المشركين ومهادنتهم واتقاء مصادمتهم ما ليس بأحد سواهم، ومع ذلك لم يُرخّص لهم وهم في تلك الحال العصيبة أن يساوموا في دينهم، لترفع عنهم قريش من وطأتها واضطهادها؛ لأن مصالحتهم من خلال المساومة في الدين لا يكون إلا على حساب العقيدة والإذعان المطلق لله.
لقد جاء النهي عن المساومة في الدين مصاحبًا لتنزّل أصول التوحيد؛ لأنه نهي متمم لبناء العقيدة، ولا قيام لبنائها إلا بالنهي عن كل ما يضادها ويقوِّض أصولَها، فلم يكن بدٌ أن يتقدم النهي عن المساومة حيث تقدمَ تنزّل العقيدة.
وهكذا لم يُردِ الله أن يُرجئ نهيه عن المداهنة في دينه حتى تظهر للإسلام شوكة وتقوم له دولة وقوة، بل جاء مصاحبًا لتنزل العقيدة أول الوحي؛ لأن النهي عن المداهنة ليس نهيًا عن شيء استغنى عنه الإسلام بقوته ومنعته، فلا يتوهم متوهم أن النهي عن المساومة في قضايا العقيدة إنما هو من أجل أن الإسلام قد استقوى فاستغنى عن مداهنة المشركين وقبول مساومتهم.
إن أصول الدين وقطعيات الشريعة وحدة متصلة الحلقات، بعضها آخذ ببعض، وإن انتقاص حلقة منها هو في الحقيقة فصمٌ للعروة الوثقى. وما المداهنة في دين الله إلا صورةٌ من صور الانتقاء والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض.
أيها الأحبة الكرام، ليس بالضرورة أن تقع المداهنة في صورة المفاوضة والمساومة المباشرة مع أعداء الإسلام على غرار معاقدات الصلح والهدنة، أو كما وقع للنبي  مع قومه حين سألوه أن يُدهن لهم فيُدْهِنوا له، وعرضوا له تنازلات ليعاوضهم بتنازلات في دينه.
فليس بالضرورة أن تقع المداهنة في هذه الصور التفاوضية، فقد تقع المداهنة في دين الله والمساومةُ على العقيدة مبادرةً من ضعاف النفوس، استجابةً لضغوط الواقع ورهبةً من تخويف الأعداء.
وقد تأتي المساومة في أصول الدين من خلال قولبه الإسلام في صورة جديدة تطفئ غضبَ الغرب! وهل ستكون تلك الصورةُ الجديدةُ إلا صورةً مجتزئةً مشوَّهةً مُنكرَةً، تقلِّب فيها ناظريك فتفتقدُ منها عقيدةَ الولاء والبراءِ، وتتحسّس فيها شعيرةَ الجهاد فلا تجد من مراتبها إلا جهادَ النفس والشيطان؟!
وقد تأتي المساومة في أصول الشريعة من خلال الدعوة إلى انتهاج منهج الشك في البحث عن كل حقيقة ولو في مسلمات العقيدة، وحقيقة هذا المنهج الخبيث هو أن لا تؤمن حتى تكفر، وكم من راكبٍ لهذا المنهج بدأ بالشك في كل شيء حتى في مسلمات العقيدة فما ازداد إلا حيرة، وما انتهى إلى يقين يطمئن إليه، وحار عليه سلاحه، واستهدى بطريق مضل، حتى اخترمته منيتُه وهو بعدُ في ريبه يتردد وفي شكه يتقلب، وَودَّ لو يموت على عقيدة عجوزٍ أُمِّيَّة، تقبّلت وحي ربها بقبول حسنٍ، وصدقت بكلمات ربها وكتبه، وسلمت تسليمًا، وما بدلت تبديلاً، فوجدت من بَرْدِ اليقين ما يحفظها من حرقة الشك، وذاقت من حلاوة الحق ما يحجب عنها مرارةَ الضلال.
وللمداهنة في دين الله صورها الكثيرة التي ترسمها رغبات الأعداء، ويملونها على ذوي القلوب المنخوبة من أبناء المسلمين ليُدهنوا لهم في دين الله.
ومن صور مداهنة الأعداء في دين الله اليوم عدم تكفير اليهود والنصارى، واعتقاد أنه يَسَعُهم أن لا يدخلوا في الإسلام، بحجة أنهم أتباع نبيٍ كما نحن أتباع نبي آخر، فيسع كل واحد أن يعبد ربه بأي ملة يختارها ما دام أنه يتبع فيها نبيًا من الأنبياء، وهي حيلة يحتالونها ليسُلُّوا سخائمَ قلوب المسلمين على اليهود والنصارى، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
ولا جرم أن الغاية من ابتعاثِ هذا المذهب الجديد هي تقويض عقيدة البراء في الإسلام، فإذا كان اليهود والنصارى على دين حقٍ فلِمَ إذًا بغضُهم والبراءةُ منهم؟!
وكم نحن في غنى عن التكلف لإبطال هذا المذهب الخِداج، أو الانشغالِ بدحض شُبهه وتقوّلاتِه لولا اغترارُ بعضِ الأغرارِ بزخرف قولهم وتصديقُهم لشبههم.
ومن شُبههم في ذلك ما استدلوا به من ظاهر قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]. قالوا: لم يُبطل الله دين اليهود والنصارى والصابئين بل وعدهم والمؤمنين بالجنة في الآخرة، فكيف تحكمون بكفرهم وهم بالجنة موعودون؟!
والجواب: أن الله لم يعدهم بالأجر ودخول الجنة إلا بثلاثة شروط: أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر الإيمان الصحيح وأن يعملوا صالحًا. وأهل الكتاب اليوم لم يحققوا توحيد الله كما جاءت به رسلهم، ولم يؤمنوا به الإيمان الصحيح، بل اعتقدوا فيه جل جلاله ما يتعاظم أحدُنا أن يحدث به نفسه فضلاً أن يتفوّه به أو يعتقدَه. كما أنهم لم يحققوا شرط العملِ الصالح، كيف وهم يتبعون كتبًا محرفة مليئة بالأباطيل والضلالات؟! فإذا حققوا تلك الشروطَ الثلاثة فقد دخلوا لزامًا في حقيقة الإسلام الذي جاء به النبي ؛ لأنه لا سبيلَ لتحقيق تلك الشروطِ إلا باتباع النبي ، فالوحي الذي جاء به يكشف تحريفَ ما عند اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل، فمن اتبعها فقد ضل عن التوحيد الخالص والإيمانِ الصحيحِ والعملِ الصالح. ولأن من شرط الإيمان بالله الإيمان برسله جميعًا، وأولئك لا يؤمنون بالنبي ، بل يحاربونه ويجرِّمونه ويصفونه بأقذع الألقاب ويسعون لتشويه صورته بكل سبيل.
وليعلم المتعلقون بهذه الشبهة أن سياق الآية أنما هو لبيان أن العبرة ليست بالانتماء الظاهر والانتسابِ الصوري، وإنما العبرة بتحقيق ما أمر الله به من توحيده وعبادته واتباع رسله، فمن حقق ذلك فقد أسلم وجهه لله وهو محسن.
كما أن من مفاد الآية أن دخول الجنة ليس قصرًا على أتباع النبي ، بل يدخلها معهم أتباع الرسل والأنبياء من قبله باستثناء من أدركوا بعثته  ولم يؤمنوا به. فالآية على هذا إخبار عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به الرسل من غير تحريف ولا تبديل ولا عصيان، وماتوا على ذلك قبل بعثته .
أما من أدرك بعثته  أو بلغته رسالته فلا يسعه إلا اتباعه ، وقد صرح النبي  في ذلك تصريحًا لا يحتمل التأويل فقال: ((والله، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار))، وقال: ((لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي)).
ثم يستدل أولئك بشُبهةٍ أخرى، في قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]. قالو: ها قد أثنى ربنا على النصارى، وأخبر أنهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، ولولا أنهم أتباع دين حقٍ ما أثنى عليهم، فلماذا إذن معاداتهم وتكفيرهم؟!
والجواب: أنهم على دين حقٍ لو لم يحرفوا ويشركوا بالله. وكونهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا لا يلزم منه أن يكونوا على ملة صحيحة ولا عدم تكفيرهم، فأبو طالب كان أقرب الكفار مودة للنبي ، بل كان أكثر الناس له نصرةً وحماية، وما شفع له ذلك أن يستغفر له النبي ؛ لأنه مات على غير ملة الإسلام، ولقد قال  عند وفاة عمه: ((لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه))، فأنزل الله قوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]. فإذا لم يجز ذلك للنبي  وهو أحرص الناس على دين الله وأرأفهم بخلقه فأولى أن لا يجوز ذلك لغيره، ومن فعل ذلك فترحم على من مات على غير ملة محمد  فقد أخطأ وخالف الحق ورُدَّ عليه أمره ولو كان عالمًا، فإنما نحن بما في الكتاب والسنة متعبّدون ولما فيهما متبعون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


أما بعد: فليس من المداهنة في دين الله في شيء مصالحة الأعداء تحصيلاً لمصلحة أو درءًا لمفسدة؛ فقد صالح النبي  كفار قريش بشروط رآها بعض الصحابة عند أول وهلة من إعطاء الدنية في دين الله، وصالح  اليهود في المدينة، وكان لهم فيها ديارٌ وأملاك، ولم يكونوا محتلين كما هو شأن يهود فلسطين.
لقد سأل المشركون النبي  الصلح فأجابهم إلى ذلك؛ لأنه ليس في الصلح مداهنة تجعل الشريعة عَرَضًا للمزايدات، ولأنه لم يكن قتالهم غايةً يهدف إليها، ولم يكن ليسلك سبيل المواجهةِ والحربِ وهو يجد إلى السلم والصلحِ سبيلاً، فإنْ أحد حال بينه وبين تبليغ الناس دعوةَ ربه فما من مواجهته وحربه من بُدٍ.
كان  سمحًا رحيمًا صبورًا حليمًا، يَلينُ في أيدي الناس ولا يرد سائلاً، ولكنها سماحة من غير مداهنة في دين الله، كان موقفه فيها الحزم والصرامة، لا يختلف في حال الضعف عنه في حال القوة والمنعة, وأظهر ما يدل على ذلك ما رُوِي في سيرته أنه لما سأله كفارُ قريش أن يترك سب آلهتهم وأن يسكتَ عن تعييبِها والحكمِ على دينهم بالضلالة، وله عليهم إن فعل ذلك أن يتركوه وما اختار من دين يتعبد به ربه، قال مقولته الشهيرة التي قطعت أمل كل مريدٍ له على المداهنة والمساومة في دين الله، قال: ((والله ‏يا عمِّ، والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلكَ فيه، ما تركته)).
واليوم يسألنا أهلُ الكتاب ما كانت قريشٌ تسأله رسول الله ، يسألنا أهل الكتاب أن نداهن في دين الله، فنعتقد أننا وإياهم على دين حقٍ وإن اختلفت الملل، وأن هذا الاختلاف إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118].
على أنه يجب أن يُعلم أنه ليس من المداهنة في دين الله أن نقيمَ علاقات تجارية مع دول كافرة، ليس في شيءٍ من ذلك مداهنة ولا مساومة؛ لأنها متحققة من غير تقديم تنازلات في العقيدة أو براءة من بعض الأحكام الثابتة.
وحين نرفض أيَّ صورة من صور المداهنةِ والمساومةِ فلا يقعنَّ في حسبان أحدٍ أننا نسعى بذلك أن نعيش عزلةً عن العالم بقطع علاقاتِنا بالدول الكافرة، ومن يفهم هذا الفهم الخاطئ فليتَّهم فهمَه لمعنى المداهنة في دين الله.
اللهم آمنا في أوطاننا...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق